ا
المقالة (1)
:حول طبيعة الإدراك بين التيار العقلي والحسي
الإشكاليات :-هل الإدراك عملية عقلية أم انطباع حسي؟(ق1:عملية عقلية،ق2:إنطباع حسي)
-قيل "حينما أفتح عيني لأول مرة،أرى كل شيأ ولا أرى شيأ"(في هذا الطرح هنالك قضية واحدة مطروحة تمثل التيار العقلي ويقصد هنا الفيلسوف أن الطفل الصغير يرى فقط ولكن لا يدرك الأشياء التي من حوله).
-هل يمكن رد الواقع إلى ما نراه فقط؟(ق1:يمكن رد الواقع إلى ما نراه فقط"التيار الحسي"،ق2:لايمكن أن نرد الواقع إلى ما نراه فقط"التيار العقلي").
-يقول( وليام جيمس )"لا يحس الإنسان الراشد بالأشياء وإنما يدركها"(هنالك قضية واحدة مطروحة،تبدأ بنفي وتنتهي بإثبات،ويقصد بها أن الطفل الصغير يحس فقط أم الراشد فهو يدرك وبالتالي فأن ويليام جيمس يساند العقليين).
-إذن كلها إشكاليات تصب في نفس الطرح وهو طبيعة الإدراك،هل هو نابع عن تصوراتنا العقلية أم هو مجرد نقل أمين لكل ما يأتينا من العالم الخارجي من منبهات و أحساسات.
طرح المشكلة:
إن العالم الإنساني ثري بالمثيرات وغني بالموضوعات التي تحتاج إلى أدراك يفسرها و يأولها وينقلها من صورتها الفيزيائية الحسية إلى استجابة نفسية غايتها التكيف مع المواقف والوقائع،وقد اختلفت أراء الفلاسفة وعلماء النفس حول طبيعة الإدراك وماهيته الحقيقية ، فمنهم من يجعله عملية عقلية خالصة تساهم فيها وظائف نفسية كالتخيل والتذكر. وعلى الخلاف من ذلك هنالك من يرى بان الإدراك مجرد انطباعات حسية في الذهن ،ومنه نطرح الإشكال الأتي:
- هل الإدراك ذو طبيعة عقلية أم حسية؟.
محاولة حل المشكلة:
-الأطروحة:يرى (العقليين)أن الإدراك هو عملية عقلية خالصة تتجاوز الإحساس،فالعقل والتفكير ميزة إنسانية تميز الإنسان عن باقي الحيوانات التي تحس فقط ولا تدرك، وبالعقل فقط ندرك حقائق الأشياء وكنهها وماهيتها.ما جعل أب العقلانية الحديثة (ديكارت)يقول "إني أدرك بمحض مافي ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني "أي أن إدراكنا لما حولنا من أشياء لا يقوم إلا على أساس العقل و أفكاره الفطرية البديهية التي تولد مع الإنسان، و تتميز هذه الأفكار باليقينية والثبات كإدراكنا العقلي للبديهيات الرياضية وللمبادئ المنطقية .
-أما المعرفة المستمدة من الحواس فأنها تحتمل الشك ،لأن الحواس قاصرة ومخادعة ،فبالعقل وحده نسعى إلى تصحيح هذه الأخطاء وإعطائها ذلك الطابع الكامل والتام .مثل:رؤية الشمس من بعيد،القلم المغموس في الماء،رؤية السراب ،وغيرها من الأمثلة التي يقوم فيها العقل بتصحيح وتمحيص كل ما يردنا من العالم الخارجي ،ثم أن وجه الفرق بين الراشد والطفل الصغير هو العقل،فالطفل الصغير يحس فقط ولا يدرك أما الراشد فيترجم هذه الإحساسات إلى إدراكات، وفي ذلك يقول( وليام جيمس): "لا يحس الإنسان الراشد بالأشياء و إنما يدركها".وفي نفس السياق يشير ألان إلى أن الحواس غير موثوق بها لأنها تقدم لنا معطيات ناقصة في حين العقل يعدل هذه المعطيات،فإدراكنا للمكعب مثلا لا يتم إلا بالعقل فمع أن حواسنا لاترى إلا وجها واحدا فإن عقلنا يدرك الشكل كاملا بأوجه الستة و أضلاعه الا ثني عشر وفي ذلك يقول "الشئ يدرك ولا يحس"، وقد بين (أفلاطون )زيف المعارف الحسية، و أعتبرها مجرد ظلال لأشياء موجودة في "عالم المثل"والذي يمثل عالم الحقائق والتصورات العقلية والرياضية المجردة و لا يمكن لنا أن نصل إلىهاته الحقائق إلا خلال التجرد من تبعات البدن والتأمل العقلي الخالص، لذلك وضع شعارا على باب أكاديميته يقول فيه:"من لم يكن رياضيا لا يدخل علينا".
-النقد:لايمكن أن ننكر دور العقل الأساسي في عملية الإدراك، إلا أن ما يعاب على العقليين هو مبالغتهم في الاعتماد على العقل وإهمالهم لدور الحس،فبدون الإحساسات لايمكن أن نتصور وجود ادراكات ولامعا رف ،وذلك لأنها تمثل النوافذ التي نطل بها على هذا العالم،ثم كيف نفسر ذلك الاختلاف الموجود بين الادراكات رغم امتلاكنا لافكارفطرية فبلية واحدة.
نقيض الأطروحة:يرى(الحسيين)أن الإدراك أنما يعود في الأساس إلى الإحساس لأنه الوسيلة الفطرية التي من خلالها نتفاعل مع الوسط الخارجي وبها نتمكن من تحصيل المعارف والتكيف مع البيئة ومن ثم فالعقل صفحة بيضاء ولا وجود فيه لأفكار فبلية أو فطرية،فالإدراك في حقيقته ماهو إلا انطباع المحسوسات في الذهن نتيجتا لتأثر إحدى الحواس وفي ذلك يقول( دافيد هيوم): "الإدراك ماهو إلا إنطباع المحسوسات نتيجة تأثر الحواس"فدور العقل إذن محصور في تسجيل وإستقبال الانطباعات الحسية ومالا فكار إلا صورة لهذه الانطباعات ،فمثلا ليس بإمكان الأعمى أن يدرك الألوان مادام فاقد للإحساس البصري،ولا يمكن لإنسان لا يسمع أن يدرك معنى الكلمات مادام لا يسمعها أصلا ،فالحواس حسب أرسطو هي "نوافذنا على العالم". وبها نكون المعرفة التي تـأتينا عن طريق توالي الخبرات وتراكمها وإذ فقدت أي حاسة فستضيع معها أي معرفة متعلقة بهذه الحاسة و لذلك قيل:"من فقد حاسة ما فقد علما ما".
- ولايتم تكوين الادراكات والمعارف إلا من خلا ل التجربة الحسية وبداية تكوين أي معرفة بأي موضوع كان إنما هو ناتج عن الإحساس بهذا الموضوع" فلو سألت الإنسان متى بدأ يعرف لأجابك متى بدأ يحس"حسب الفيلسوف الإنجليزي(جون لوك)،فالتجربة إذن هي الأساس الأول لما نملكه من معارف وليس العقل، فهي التي تمدنا بشتى المعارف و لذلك يعتقد(جورج باركلي) أن "إدراك المسافات حكم يستند إلى التجربة" .
النقد:صحيح أن للحس الدور الكبير في عملية الإدراك إذ يمثل الأداة التي من خلالها نكون المعارف والأفكار ،إلا أن ما يعاب على الحسيين هو إهمالهم لدور العقل وحصر مهمته في تسجيل واستقبال الانطباعات الحسية فقط ،كما أن الاحساس في الكثير من المرات يمدنا بمعارف ظنية توقعنا في الزلل والخطأ .
التركيب :لا يمكن أن نعتمد على العقل وحده كأساس في عملية الإدراك إذ بدون حس لا يمكن أن نطلع على العالم الخارجي ولا أن ندركه،كما أنه لايمكن الاعتماد على الحس وحده لأنه في الكثير من المرات يوقعنا في الخطأ والزلل ،هذا ما جعل(كانط) ينتهج رأين توفيقيين بين المذهبين يقوم على أساس الجمع بين المقولات العقلية والحسية معا وفي ذلك يقول:"المقولات العقلية بدون معطيات حسية جوفاء والمعطيات الحسية بدون مقولات عقلية عمياء".
حل المشكلة :
نستخلص في الأخير أن طبيعة الإدراك بقت محل الجدل الفلسفي بين المدرسة العقلية والحسية،لكن هذا الجدل قد حل مع تطور العلوم والأبحاث العلمية التي أثبتت إستحالة الفصل بين الاحساس والإدراك خاصة لدى الإنسان المتميز بفاعليات معقدة ومتشابكة.
-